ملتقى الأمة الواحدة

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

منتدى إسلامي علمي ثقافي يسعى لوحدة المسلمين تحت راية التوحيد والنهوض بالأمة ورفعتها والتمكين لها في الأرض


    كتاب تبصير الأنام بكفر مردة الحكام للشيخ أبو أيمن

    سعيد القمري
    سعيد القمري


    المساهمات : 16
    تاريخ التسجيل : 22/01/2011

    كتاب تبصير الأنام بكفر مردة الحكام  للشيخ أبو أيمن Empty كتاب تبصير الأنام بكفر مردة الحكام للشيخ أبو أيمن

    مُساهمة  سعيد القمري السبت فبراير 26, 2011 6:21 am

    كتاب
    تبصير الأنام
    بكفر مردة الحكام
    كتبه الشيخ أبو أيمن




    مقدمـة
    الحمد للَّه وكفى، وصلاة اللَّه على نبي الهدى المصطفى، محمد بن عبد اللَّه، وعلى آله وسلم..
    وبعد..
    سبب تأليف الرسالة
    فقد أوقفني بعض الطلاب النابهين علي ورقة بتوقيع "السلفيين" ! تحت عنوان "تحذير الأنام من فتنة تكفير الحكام"، فوجدتها في جملتها صدىً لشبهات متكررة في دورياتهم، سبق وأن بين أهل العلم ما فيها من زيغ وتلبيس، غير أنه ألح عليّ بالرد عليها، ولو بنحو حجمها، على الرغم من كون صدورها من قِبل هؤلاء قد مر عليه عام ويزيد، حيث وزعت بين يدي مقدم الحلبي الثاني إلى ديارنا، وقد كنت أصدرتُ بعدها رسالة بعنوان "إسعاف الأُمة المكلومة من جنايات الحلبي المسمومة"، وهي لا تخرج عن ذات الموضوع، ويبدو -واللَّه أعلم- أنهم قد استأنفوا نشر ورقتهم من جديد؛ بسبب إرهاصات تنبئ بقدوم الحلبي للمرة الثالثة لديارنا، عقب عيد الأضحى من هذا العام -كما بلغنا- إذا ما شاء اللَّه، فرأيت من البد إجابة الأخ المذكور، بقريب مما طلب، وفي رؤوس أقلام! خصوصاً وأن كثيراً من طلاب الحق لم يقف على ما كتب في رد هذه الشبهات، في غير ما كتاب من كتب أصحاب الفضيلة، وأخص بالذكر منها: كتاب "الحكم بغير ما أنزل اللَّه" لعبد الرحمن المحمود، وكتاب "شذرات الماس من كتاب دفع الالتباس عن أثر ابن عباس" لأبي اليمان الربعي، وهما من أهم الكتب في هذه المسألة حسب رأيي؛ فلا بد أذن من مطوية صغيرة تصل إلى من لم يقف على الكتب المشار إليها وغيرها إن شاء اللَّه؛ عسى أن ينفع اللَّه بها من شاء من عباده..
    ملاحظات تاريخية حول شبه القوم
    ولا أنسى أن أُسجل هنا للتاريخ ملاحظة رأيتها في القوم -أعني القائمين على كتابة هذه الشبه أو نشرها، وأعرف بعضهم- وهي أنهم كثيراً ما يحيدون في نشراتهم هذه عن رد الحجج التي هَدمت من قبل شبهاتهم هذه، فيرددون القديم ثانية، وبعد كساده في سوق الحجة والبرهان، وقد وقف القوم على كثير من الإلزامات التي لا مفك عنها -إن شاء اللَّه- إلاّ بالإذعان للحق لمن كان ينشده ، ودونك -مثلاً- ما كتبناه في رسالتنا المشار إليها آنفاً:
    -ومن ذلك: مسألة كون مفهومهم لأثر ابن عباس ليس له أثر في واقعنا المعاصر، حيث أثبتنا في الرسالة المذكورة بما لا يدع مجالاً لمتلاعب أن أرباب القوانين الوضعية هؤلاء لا يسعفهم الأثر المذكور بحال من الأحوال، حتى ولو صح من جهة النقل، ثم من جهة كونه حجة، وله حكم الرفع! ثم من جهة فهم هؤلاء له ، وما التشبث بالأثر في واقع اليوم إلاّ كمن عينه في الفيل ويطعن في ظله!، فما سر الإلحاح وتلمس الأعذار لهؤلاء المبتدعة، الجهمية، الخوارج، المرجئة الغلاة، ثم العلمانيين الملحدين الطغاة، الدعاة على أبواب جهنم بما لا يصح عذراً، وعلام تسويد الورقات، أو نشرها مرة بعد مرة، بتكرار ذكر الأثر..، فكان ماذا بعد الذي حججناهم به؟..
    -ومن ذلك تعمد التشويش بإقحام مسألة العذر بالجهل أو الإكراه بضابطه كعذر من كون كفر الحكام ليس كفراً أكبر، وبعضهم لربما يحسب -جهلاً- أن الكفر الأكبر يصير -حقيقةً- كفراً دون كفر في حق المعين إن كان جاهلاً، ولم تقم عليه الحجة، وهذا جهل بعقيدة "الإيمان"، وحقيقته عند أهل السنة، فالكفر الأكبر أكبر، ومن كان له عذر شرعي فليس آثماً أصلاً، ولا تلحق به صفة الكفر الأصغر، كما الأكبر على وجه التعيين، فليس هذا أصل المسألة، فالرجاء عدم التشويش على طلاب الحق، وعدم الحياد عن موضوعنا -وهو كون كفر صاحب القوانين الوضعية من قبيل الكفر الأكبر- بإقحام مسألة العذر بالجهل، وإنما يكون الحديث فيه لاحقاً، وبعد مرحلة مناقشة جنس الكفر المعاصر نفسه.
    -ومن شبههم التي يكثرون من ترديدها أيضاً اشتراط نسبة الحكم للَّه كشرط في تكفير المشرع، فلا يزال القوم يرددون مثل شبههم هذه في مساجلاتهم كما خلقت أول مرة، رغم هدمنا لها من قبل، وما زالوا ينشرون أوراقاً تحمل الشبه والاستدلالات القديمة، دون مواكبة أو رد لما استجد من رد عليها! ولسان حالهم: "أُذن الطرشان!، ولسنا المعنيين بالرد"!.. غير أني -وللإنصاف- رأيتهم في هذه النشرة قد حاولوا تخصيص آية المائدة بدليل من الوحي، وأظنهم لجؤوا إلى ذلك حينما ألحينا عليهم بطلب الاستدلال من الوحي في مسائل العقيدة -كهذه- كمخصص للآية يؤيد فهمهم للأثر، بدلاً من الاقتصار على الآثار بمفردها ، خصوصاً ما حامت حوله شكوك التضعيف منها.
    ومع تخصيصهم الجديد (القديم!) هذا أقول: إن هذا الحديث الذي ذكروه كمخصص للآية، إنما هو عليهم -إن شاء اللَّه- وليس لهم كما سنرى، ولكني أشجعهم على هذا المسلك السلفي في البحث من خلال نصوص الوحي لما يؤيدون به مذهبهم، خصوصاً كنحو مسألة هي عندي من أعظم ما تعم به البلوى بين الناس قاطبة! وأخطرها؛ وذلك أن "الحاكمية" و"التسليم" صنوان مترادفان، وهذا مما لا يعقله هؤلاء، ولم يسبر غواره كثير من الناس بعد.
    مفهوم الحاكمية وكونها من صميم التوحيد
    وإنما كانت هذه القضية من أخطر القضايا -إن لم تكن أخطرها على الإطلاق-؛ لأن اللَّه خلق الناس، بل الكون كله لغاية، هي التسليم له، وهي العبادة ذاتها، وللفائدة والبيان في توكيد كونها كذلك، وشرحها لمن لم يفهم، وحتى يكون على بصيرة من دينه أقول الآتى:
    من أعظم ما يلتبس على هؤلاء فهمه هو خلطهم بين مسألة التحكيم ومسألة التطبيق، فينتج من ذلك تعييبهم لنا التركيز في مسألة تشريع القوانين الوضعية ونحوها، أكثر من تعليمنا الأمة -مثلاً- تطبيق السنن، واجتناب المحرمات، باعتبار أن الدعوة لهذه الأخيرة ينبغي أن يكون داخلاً في مسألة تحكيم شريعة اللَّه سبحانه، ولا فرق بين الحاكم المحكًّم للقوانين الوضعية، وبين شارب الخمر، من الرعية، ومسبل إزاره -مثلاً- من هذه الناحية!.. فأقول:
    إن تفريقنا بين القضيتين، إنما نتج من تفصيلنا وتفسيرنا لكل من القضيتين، بخلاف فهمهم الذي يغلب عليه الإجمال كثيراً في مباحث هذه المسألة كما سنرى، فمقصدنا بالأمر الأول: هو مبدأ رد النزاع، سواء كان في مسائل العقيدة، أو غيرها من أُمور الشريعة العملية، وهو برمته -حينئذ- مسألة عقدية، ومقصدنا بالأمر الثاني: امتثال الأمر في الخارج، والذي يكون بعد الرضا والقبول بحكمه..؛ وعليه، فإن الاحتكام في جميع مسائل الدين العلمية، والعملية شرط في صحة الإيمان، ومن لم تكن مرجعيته الوحي، سواء في العقيدة أو قضايا الشريعة الأُخرى، -قلّت أو كثرت- فليس بمسلم، وغير محكم للَّه تعالى في الجزئية التي لم تكن مرجعيته فيها الكتاب والسنة. أما قضية اتباع السنن، أو تطبيق الأحكام، فما كان منها من مسائل العقيدة في نفسه فيدخل في أحكام التكفير بحسبه، وما كان منها في آحاد الأمور المصطلح عليها باسم "الأحكام الفرعية"، فلا يوصف صاحبها بعدم تحكيمه الشريعة في نفسه، إذا ما ارتكب ذنباً -على الصحيح- مادامت مرجعيته فيها هي الكتاب والسنة، وهو -حينئذ- محكِّم للَّه في كل شرائع الإسلام، حتى فيما عصى فيه!، ومن أطلق من أهل العلم على المعاصي مسمى "الحكم بغير ما أنزل اللَّه"، فإنه أنما قصد الاختيار للمعصية، وذلك على استعماله اللغوي، -وحكمها حينئذ بحسبها- أو كونها من شعب الكفر، وبينها وبين مصطلح الكفر الأصغر فرق؛ وإلاّ لأخذت كل معصية -صغرت أو كبرت- حكم الكفر دون كفر حقيقة( )، وليس اسماً فقط!.
    وعليه أقول رداً علي أصحاب هذا المنهج: إن الحاكمية التي ندعو إليها هي قبول كون الشرع هو الحَكَم في كل شأن، وليس كما يفهم هؤلاء -على اضطراب فيهم- أن معناها تنفيذ، أو تطبيق آحاد الأوامر في الخارج، أو ليس كما يفهمونه عنا، ويحاولون إلزامنا به من مجرد العمل السياسي شهوةً في الحكم، أو القول بمطابقة قولنا لقول الرافضة الأنجاس في مسألة "الإمامة"، وقد يستدلون على هذا الفهم بنقولات عن بعض الخلفيين السياسيين، المحسوبين على أهل "الحاكمية"!، ثم يعممون الأمر -كما هي طريقتهم- ويقحمون بعد ذلك المعنى المحدد الذي نقصده نحن بهذا المصطلح من باب الصيد في الماء العكر، واللعب بالألفاظ المشابهة؛ لصرف الناس عن شرك الحكام في جانب الحكم، تحت ستار أن منهج الأنبياء يزهد في التملك، والدعوة السياسية.
    عاملكم اللَّه بما تستحقون أيها الظالمون..، إن "الحاكمية" بالمعنى الذي نقصده لهو فرع أصيل في شهادة التوحيد للَّه، وفي الخضوع له، والتسليم لأمره الشرعي، ولا فرق -حينئذ- بين من تمرد على اللَّه بارتكاب هذه الجريمة، وبين من ارتكب جريمة دعاء غير اللَّه، أو عبد قبراً، وقد كان من منهج الأنبياء في الدعوة إلى اللَّه تجريد التوحيد من شوائب هذا النوع من الشرك في أوضح صوره، حيث واجهوا فيه حكام عصورهم، وغيرهم من المترببين من الناس بالتحليل والتحريم، أو بحياشتهم الناس بعيداً عن ربهم، والاستفراد بهم اعتباداً واستعباداً، أمراً ونهياً، أو بادعائهم الربوبية صراحة.. كل ذلك مما نحن فيه، والقرآن مليء بذكر هذا الأصل وتقديمه، بل هو مرادف لمعنى "الإسلام" بمعنى "الاستسلام" كما ذكرنا، فننازع فيه الملوك والحكام إلي آخر رمق بإذن اللَّه؛ لأنهم أبين وأعظم من أشرك من الناس بهذا النوع من الشرك في العالم، وأخطر من حاد عن توحيد الأنبياء بخصوصه، كيف.. وقد حملوا عليه الأُمة غصباً، وربوا أبناءها عليه جبراً؛ حتى كانوا لذلك أعظم الدعاة على أبواب جهنم!.
    كما إننا ننازع فيها عامة الناس كذلك، ونقول إن مخالف "الحاكمية" بهذا المعني الذي نركز عليه يكفر في أي من فروع الدين كلها، ولا نخص بذلك الحاكم وحده، فمن اتخذ لنفسه مرجعية في أيٍّ من فروع الشريعة غير الوحي، كالعقل -مثلاً- أو الشيخ، أو غير ذلك، ولم يرض ابتداءً بالاحتكام للشريعة عند النزاع فيما عصى أو هفا، فقد اتخذ لنفسه إلهاً من دون اللَّه، ويزيد ضلالاً وتمرداً إذا حمل على ذلك غيره من عبيد اللَّه تعالى الذين اصطفاهم اللَّه لنفسه، كما هو حال هؤلاء المردة؛ فكفرهم فوق كفر، وليس دون كفر كما بينا في غير هذا الموضع. ومن هنا كانت غيرتنا على جناب التوحيد، وثأرنا لما استلب من حق سيدنا، وولي نعمتنا سبحانه، وليس طلباً للتملك، ولا طمعاً في الرياسة، بل حماية لهذا الجناب، وإقامة لعدل مستلب لو كنتم تعقلون.
    هذه مسألة مهمة، أقحمتها هنا لأني رأيت إشارات من كلامهم في مقدمة ورقتهم هذه، وفي خاتمتها تشير إلي خلط عندهم، وكنت من قبل أبحث عن مناسبة لشرحها، وقد وجدت هذه المناسبة مواتية رغم أن المقام لا يسمح بالإسهاب فيها، ولكني أري في ذكرها -ولو باختصار- الخير الكثير، والذي سنرى ثماره قريباً بإذن اللَّه تعالى.

    شبهات القوم وردها
    والآن نقف على بعض شبهات القوم في المنشور المذكور، وردها برؤوس أقلام إن شاء اللَّه، وسأركز أكثر على شبهتين كبيرتين، هما الأُولي، والثانية؛ ومن خلال ذلك ستحل كثير من الإشكالات، يغني عن تتبع بنيات الطريق، التي يشوشون بها على مريدي الحق!..
    الشبهة الأُولى: خطأ في النقل والفهم
    أولاً- نقلهم عن الآجري أنه قال: ((ومما يتبع الحرورية من المتشابه قوله تعالي: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ()).
    قلت: قال الآجري في كتاب "الشريعة": ((حدثنا أبو بكر بن أبي داود، قال: حدثنا المثنى بن أحمد، قال: حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير، في قوله تعالى: )وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ( قال: "أما المتشابهات فهن آي في القرآن يتشابهن على الناس إذا قرءوهن، من أجل ذلك يضل من ضل ممن ادعى هذه الكلمة، كل فرقة يقرءون آيات من القرآن، ويزعمون أنها لهم أصابوا بها الهدى، ومما تتبع الحرورية من المتشابه قول اللَّه تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(، ويقرءون معها: )ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ(، فإذا رأوا الإمام يحكم بغير الحق قالوا: قد كفر، ومن كفر عدل بربه فقد أشرك، فهؤلاء الأئمة مشركون؛ فيخرجون فيفعلون ما رأيت؛ لأنهم يتأولون هذه الآية")) .
    قلت: أصل الكلام -إذن- روايةٌ لسعيد بن جبير ، وفي إسنادها مقال كما ترى..
    ثم ليس الكلام على ما فهموه؛ إذ من المعلوم أنه ليس من منهج أهل السنة ترك الاستدلال بآية استدل بها قوم على وجه خطأ إذا ما تحقق مناطها الصحيح، فالمشبهة مثلاً يستدلون على إثبات صفات اللَّه تعالى على نحو ما عند البشر بنفس أدلة أهل السنة، فلو أن المعطلة -مثلاً- أنكروا على أهل السنة استدلالهم على إثبات صفة من صفات اللَّه تعالى بآية ما؛ بحجة أنها مما يستدل بها المشبهة في مناط خاطئ، هل يحل لأهل السنة ترك الاستدلال بالآية في مناطها الصحيح.. كلا إذن، وهذا أمر واضح لا يحتاج إلى استدلال، وقد لحقت جنس هذه التهمة علماء السلفية الشرعية من قبل المرجئة، والجهمية، والرافضة، والخرافيين منذ زمان أحمد بن حنبل، وحتى الأمس القريب، أيام "إخوان التوحيد" في نجد، بل وإلى اليوم، في كثير من المسائل، والاستدلالات، ولو لا خشية الإطالة لنقلت بعضها من فتاوى النجديين، ومن كتب التاريخ، وفتاوى ابن تيمبة، وكتب أهل البدع، وغيرها، وأنما المهم هو إثبات المناط الصحيح للآية، وبيان الفرق بين الفهمين فيها. فهناك فرق بين استدلالنا بالآية، وبين استدلال الخوارج، والمناط الذي أنزلوا فيه الآية، بيانه في الآتي:
    الفرق بين أهل السنة والخوارج في مسألة تكفير الحكام
    إعلم أن الفرق بيننا -نحن أهل الوسط، وأهل التفصيل- وبين الخوارج في مسألة تكفير الحكام، هو ((أن الخوارج لما كفروا الحكام قديماً استدلوا بكلمة حق -وهي قولهم: "لا حكم إلاّ للَّه" ، مع قوله تعالى: )وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ(- ولكنهم أرادوا بها باطلاً، وهو التكفير لمن لا يستحق الكفر من عصاة الأُمراء، ممن لم ينازع اللَّه في حاكميته على الناس، فأبقوا الحكم المذكور، وهو -التكفير- على ظاهره، وصرفوه إلى غير مناطه، وهؤلاء الذين أفتوا في حكام عصرنا بالكفر الأصغر أوّلو الكفر المذكور في غير مناطه -وهو مزاحمة اللَّه في الحكم بمعناه الأول، أو التحلل من الدين بالتزام غيره من الشرائع- والحق أن يبقى الكفر على ظاهره في مناطه، وأن يؤول في غير مناطه، وهذا فيصل الافتراق بين الخوارج، وأهل السنة، والمرجئة)) .
    مدلول "الحكم" بين الخالق والمخلوق
    ولبيان ذلك لمن لم يفهم:
    إعلم أن الحُكمَ حُكمان، لا بد من بيانهما؛ لوضع الأًُمور في نصابها الصحيح، وذلك على حد قول ابن القيم في نونيته:
    فعليك بالتفصيل والتبيين فالـ
    قد أفسدا هذا الوجود وخبَّطا
    إطلاق والإجمال دون بيان
    الأذهان والآراء كل زمان

    وسترى أخي أن ما سنبينه في هذا التفصيل هنا -عملاً بوصية ابن القيم- هو سر المسألة برمتها، وبه ستعلم لِمَ يفرق أهل السنة بين وقائع الأعيان، وبين التشريع في الحكم؟؛ وما تخليط من لم يتبين له الحق فيها إلاّ بعدم معرفته بهذا التفصيل، فأرعني سمعك جيداً، وهات قلبك.
    يقول أبو اليمان: ((أما كلمة "الحكم" فيلزمنا هنا باختصار معنيان مهمان من معانيها؛ صار الناس بسبب الخلط بينهما في المسألة على طرفي نقيض، ووسط.. فألحق بعضهم المعنى الأول بالثاني فأفرطوا، وعكس آخرون ففرطوا، وبقي الوسط على التفصيل الآتى:
    المعنى الأول- لمدلول كلمة الحكم: "عمل اللَّه، وخاصيته"، وهو إصدار الأوامر الكلية التشريعية، التي يرجع إليها القضاة للفصل في القضايا، ويرجع إليها العباد في امتثال الأوامر. ويدخل في هذا المعنى تعريف الحكم عند الأصوليين، خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين.
    ويشهد لهذا المعنى آيات كثيرة، منها: قوله تعالىSad إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ)، وقوله تعالى: (أَفَغَيْرَ اللَّه أَبْتَغِي حَكَمًا)، وقوله تعالى: (وَاللَّه يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ).. وغير ذلك من الآيات.
    المعنى الثاني- (عمل القضاة)، وهو الفصل في الوقائع والقضايا الخاصة بحادثة ماثلة، ببيان ما تستحقه من حكم.
    ويشهد لهذا المعنى آيات كذلك، منها: قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ(، وقوله تعالى: )وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)، وقوله تعالى: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا)، إلى غير ذلك من الآيات.
    فالحكم في المعنى الأول لا يحل لأحد أن يمارسه أو يقترب منه؛ لأنه من أخص خصائص الأُلوهية، وأعظم لوازم الربوبية؛ ولذا انفرد اللَّه تعالى من دون العالمين بفعله، فهو الذي يحدث للعباد أحكاماً وتشريعات؛ ليذلهم إليه ويعبدهم بها، ثم يصلح بها حالهم، وليس لأحد من خلقه ذلك.
    والحكم في المعنى الثاني أباح اللَّه للعباد ممارسته والانشغال به، وأيضاً ليس على إطلاقة، وإنما شريطة أن يكون مستمداً من حكمه، ومستقىً من تشريعه جل وعلا.
    ولنضرب لكل نوع من الحكم مثلاً لتقريب فهم المسألة:
    فحد السرقة مثلاً، عمل اللَّه بخصوصه، وحكمه فيه هو إصدار تشريع (قانون) بقطع يد السارق بشرطه، أما مهمة القاضي في شأن السارق المعين أن يقضي بقطع يد هذا المعين، وليس له في التشريع نصيب، فعمل اللَّه يرجع إلى الحكم نفسه تشريعاً، أما عمل العبد فيرجع إلى الأعيان تنفيذا، وهذا واضح، وبه يتبين أن النوع الأول من الحكم -وهو حكم اللَّه- غير النوع الثاني الذي هو فعل العباد، والمخالفة في النوع الأول تكون بممارسة خاصية اللَّه بإصدار أحكام كلية، يدين الناس بالاحتكام إليها في حياتهم، والمخالفة في النوع الثاني تكون بعدم تنفيذ أمر اللَّه في معين عصياناً..
    فالأول يكون عمله مضاداً -حينئذ- لقوله تعالى: )إِنِ الْحُكْمُ إِلاّ لِلَّهِ(، أما الثاني فعمله يضاد الأمر المقتضي للوجوب في قوله تعالى -مثلاً-: (فَاجْلِدُوْا)، (فَاقْطَعُوْا)، هذا هو الفرق بين الحكمين: حكم الخالق، وحكم المخلوق)) أهـ.
    قلت: والأسطر القادمة فيها تفصيل، يبين ذكر الحالات التي تتناولها أية المائدة على ظاهرها، والحالات المؤولة بكفر دون كفر، ضمن الإجابة على سؤالهم بخصوص أُمراء "لا يهتدون بهدي النبي e، ولا يستنون بسنته"!! في رد الشبهة الآتية:
    الشبهة الثانية: تخصيص الآية بحديث حذيفة في الفتن
    ثانياً- قولهم بتخصيص الآية بـ((حديث حذيفة: فهل وراء ذلك الخير من شر؟ قال نعم، قلت كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس، قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك فاسمع وأطع. (أخرجه مسلم برقم )))، قالوا: ((فهذا الحاكم، أو الأمير الذي لا يهتدي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يستن بسنته، هل يحكم بما أنزل اللَّه؟)).
    محاولة صحيحة في منهج الاستدلال، ونتيجة خاطئة
    أقول أولاً: محاولتهم تخصيص العام بنصوص من الوحي فقط -وأُكرر فقط- هو خطوة في الطريق الصحيح نشجعهم عليها كما سبق أن ذكرنا؛ وذلك لأن تخصيص العام، وتقييد المطلق من نصوص الوحي بأقوال كائن من كان بعد النبي صلى الله عليه وسلم تجعله متحكماً في النص، وهذا ممتنع، فوجب الإتيان له بدليل يتوافق مع كون قوله إنما هو إخبار فقط عن مدلول النص، وليس تحكماً فيه، وهذه إلزامية لا مفك لهم منها إلاّ بالقول: إن قول الصحابي في القرآن -كله- له حكم الرفع حقيقة؛ فيكون قوله -حينئذ- هو قول النبي صلى الله عليه وسلم في أصله، أو غير حقيقة فيكون معصوماً، أو يلزمهم الرجوع إلى القول بأن الصحابي إذا تكلم في التفسير إنما يتكلم عن مدلول إخبار اللَّه في الآية، وليس له من تخصيصها أو تقييدها نصيب؛ فيحتاج إلى ما يسند قوله من الوحي، وهو مطلبنا القديم. وهذه جزئية تحتاج إلى بسط ونقض لقول المخالفين ولربما نشير إلي طرف منها لاحقاً، والذي يعنينا هنا هو ما أتوا به زعموا أنه يخصص الآية، موافقة لفهمهم كلام بن عباس -ولا أقول مقصده، فلا تفرحوا- وهو استدلال خاطئ، لا دليل لهم فيه كما سنبين، وكنا نتمنى أن يذكروا غير هذا الحديث من المخصصات ؛ وذلك لأن:
    حول شاهد الاستدلال
    ثانياً: الرواية، أو -على الأقل- اللفظ المذكور في هذا الحديث، والتي جاء فيها: "وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس" -رغم كونها في صحيح مسلم- فقد طعن فيها الدارقطني، وقواها النووي؛ لوجود الرواية الأخرى!. مع كون ما فيها من ذكر أئمة من بعده e "يهدون بغير هديه، ويستنون بغير سنته"، قد جاء ذكرها في رواية للحديث في البخاري كنحو هذا اللفظ، في مرحلة متقدمة عن مرحلة "رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس"، فلم التشويش بذكر هذه الرواية مبتوتة عن أخواتها؟ فإن كنتم تعدونهم حكام العصر فسنقول بل هم أصحاب وصف "دعاة على أبواب جهنم"، وهؤلاء ليسو أصحاب مرحلة: "خير" المتقدمة في الزمان، وإن كان هؤلاء "الشياطين" هم أهلها؛ فإن المتأخرين -إذن- فوق الشياطين درجة، وإليك البيان:
    ورد الحديث في البخاري ومسلم، وغيرهما بروايات أتم وأضبط، يتبين من خلالها المرحلة الزمنية التي فيها جنس كل نوع من الحكام، وفيها ما يعتبر حجة علي هؤلاء في تمامة الحديث، كما سنبين. وإن الاقتصار بموضع الشاهد، بذكر هذه الرواية مفردة لا يبين من هم هؤلاء الذين "تعرف منهم وتنكر!"، وسأذكر لك أولاً نص الرواية المتفق على صحتها مطولة، ثم يأتي لاحقاً بقية الروايات.
    عن حذيفة بن اليمان  قال: ((كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِى؛ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه! إِنَّا كُنَّا فِى جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّه بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ شَرٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ"، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: "نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ"، قُلْتُ: وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: "قَوْمٌ يَسْتَنُّونَ بِغَيْرِ سُنَّتِى، وَيَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِى، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ"، فَقُلْتُ: هَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: "نَعَمْ، دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا"، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه! صِفْهُمْ لَنَا، قَالَ: "نَعَمْ، قَوْمٌ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا"، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه! فَمَا تَرَى إِنْ أَدْرَكَنِى ذَلِكَ؟ قَالَ: "تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ"، فَقُلْتُ: فَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ، وَلاَ إِمَامٌ؟ قَالَ: "فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ)) .
    فهذا الحديث -كما ترى- يتكلم عن مراحل ستمر بها الأُمة في مسيرتها الدعوية السياسية! فمن هم الذين "يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي، تعرف منهم وتنكر"؟. وأين نصيب عصرنا نحن مما ورد في هذا الحديث؟
    بغير إطالة أقول: إن خلاصة الإجابة على هذا السؤال الأول تسهل بمعرفة الإجابة على السؤال الثاني، وبه نبدأ:
    أرباب القوانين دعاة على أبواب جهنم وخوارج كذلك
    إن أولى من يمكن أن نلحق بهم حكام عصرنا هو أنهم داخلون في وصف "دعاة على أبواب جهنم"، من أجابهم إلي بيعة، أو دخل في طاعتهم قذفوه فيها؛ وذلك لدعوتهم لعصبية وثنية منتنة باقتسامهم دولة الخلافة التي كانت تجمع المسلمين في "جماعة المسلمين وإمامهم"، وبعدم وجود الإمام وجب اعتزال هذه الدول باعتزال بيعة حكامها؛ فإن أولي من ينبغي اعتزاله من أهل الفرقة هم أصحاب الببيعات الجاهلية، وأمراء الفرقة، الذين يكرسون فرقة الأمة، ومن دعا إلى التزام مثل هذه الدول ببيعة حكامها فأقل ما ينبغي أن يحذر الوعيد المذكور في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من قتل تحت راية عمية، يدعو عصبية، أو ينصر عصبية فقتلة جاهلية)) ، فكيف إذا كانت هذه الراية ممزوجة بتمجيد الوثنية الوضعية، وغيرها من المكفرات؟. وإن من الإجحاف وضيق الأُفق عدم التنبه في هذا العصر إلى أن الدول التي تقاسمت تركة الخلافة داخلةٌ هي نفسها في مسمى الأحزاب والفرقة، فليس المقصود فقط الجماعات الدعوية المنحرفة كما لا تتسع عقول هؤلاء إلاّ لمعرفة ذلك النوع من الحزبية المنافسة!، خصوصاً وأن الحديث يتكلم عن مراحل "سياسية"! تمر بها الأُمة في مسيرتها الدعوية كما مر معنا.
    وقد ذكر الألباني الحديث في صحيحته بزياداته، من المسند، وسنن أبي داود، والمعجم، وغيرها مطولاً ، وفيها ما يؤيد ما ذكرنا من دخول حكامنا تحت وصف "دعاة على أبواب جهنم"، وإليك نصها: ((... دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها. قلت : يا رسول اللَّه! صفهم لنا. قال: "هم من جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا". قلت: يا رسول اللَّه! فما تأمرني إن أدركني ذلك؟ قال: "تلتزم جماعة المسلمين وإمامهم، تسمع وتطيع الأمير، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فاسمع وأطع. قلت: فإن لم يكن لهم جماعة، ولا إمام؟ قال: فاعتزل تلك الفرق كلها، و لو أن تعض بأصل شجرة، حتى يدركك الموت وأنت على ذلك". (وفي طريق): "فإن تمت يا حذيفة وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحداً منهم". (وفي أخرى): "فإن رأيت يومئذ للَّه عز وجل في الأرض خليفة فالزمه، وإن ضرب ظهرك، وأخذ مالك، فإن لم تر خليفة فاهرب في الأرض، حتى يدركك الموت وأنت عاض على جذل شجرة" قال: قلت: ثم ماذا؟ قال: "ثم يخرج الدجال ...")).
    قلت: فالدعاة على أبواب جهنم هم في العصر الذي يسبق الدجال، وهذا يؤيد أنهم في زمان سقوط الخلافة المسلمة؛ وذلك لأن الدجال يكون في زمان المهدي المنتظر، والذى يزامن نزول ابن مريم. والمهدي المنتظر سيملأ الأرض عدلاً، بعد أن ملئت جوراً، ولا يملأُ الأرض جوراً إلاّ غياب الخلافة الإسلامية من وجه الأرض، ويستأنس لذلك بما ذهب إليه بعضهم، من أن المهدي هو أول خلفاء الدولة الإسلامية المرتقبة، مستدلاً بوصف كون الأرض قبله قد ملئت جوراً، كما في بعض الروايات .
    وأقرب من ذلك، هو الاستدلال بما جاء في المسند عن حذيفة مرفوعاً: ((تكون النبوة فيكم ما شاء اللَّه أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء اللَّه أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء اللَّه أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء اللَّه أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبريةً، فتكون ما شاء اللَّه أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت)). ففي هذا الحديث: ذكر النبوة، ثم الخلافة الراشدة زمان السلف، ثم ملك عاض، وقد كان ذلك في زمان بني أمية، وبني العباس، وملك العثمانيين، ثم عصر يسبق ظهور دولة راشدة، يكون الحكم فيه جبرياً، وقد كان ذلك مع بدايات ما يسمى بـ"الاستعمار"، ثم صار في بني جلدتنا، ومن يتكلمون بألسنتنا بعد ما يسمى "عهد الاستقلال".
    وسواء كان أول الخلافة المرتقبة المهدي المنتظر، أو غيره، فلا شك أنّا في عصر بلا خلافة، فليسو -إذن- إلاّ دعاة على أبواب جهنم.
    فإن ثبت أنّا في هذا العصر الذي غابت فيه الخلافة، فالهرب من أُمرائه واجب، كما قال ابن حجر: ((قال -يعني الطبري-: "وفي الحديث أنه متى لم يكن للناس إمام فافترق الناس أحزاباً فلا يتبع أحداً في الفرقة، ويعتزل الجميع إن استطاع ذلك؛ خشية من الوقوع في الشر"، وعلى ذلك يتنزل ما جاء في سائر الأحاديث، وبه يجمع بين ما ظاهره الاختلاف منها، ويؤيده رواية عبد الرحمن بن قرط المتقدم ذكرها)) أهـ.
    قلت: يقصد ما جاء في سنن ابن ماجه: ((فلأن تموت وأنت عاض على جذل خير لك من أن تتبع أحداً منهم)).
    فلتحذر أخي أن تكون من جثا (جماعات) جهنم، المستجيبين لدعاتها هؤلاء، فلا تبايعهم بصفقة يدك، ولا تعطهم مالك؛ فإنهم يبتاعونك بغير مقابل، ولا سلعة لهم سوي مقعد في جهنم!؛ وما الأمير الذي أمر النبي e بالصبر عليه وإن جلد ظهرك، وأخذ مالك إلاّ أميرٌ لجماعة المسلمين، سواء كان في زمان "قوم يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي"، أو في زمان "دعاة على أبواب جهنم"، إن كان ثم أمير يومئذ، كما قال ابن حجر: ((قوله: "تلزم جماعة المسلمين وإمامهم": بكسر الهمزة، أي أميرهم، زاد في رواية أبي الأسود : "تسمع وتطيع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك"، وكذا في رواية خالد بن سبيع عند الطبراني: "فإن رأيت خليفة فالزمه، وإن ضرب ظهرك، فإن لم يكن خليفة فالهرب")).
    وقال النووي: ((وفي حديث حذيفة هذا: لزوم جماعة المسلمين وإمامهم، ووجوب طاعته، وإن فسق وعمل المعاصي من أخذ الأموال وغير ذلك، فتجب طاعته في غير معصية)) .
    بل أزيد وأقول كذلك: ليس بعيداً أن توصف دولهم بأنها دول "خارجية"، زيادة على وثنيتها؛ وذلك لخروج كيانها عن خط الخلافة المسلمة، التي كانت بالأمس، ومحاربتها له. وإن الخروج علي السير في طريقة الخلافة التي دامت قروناً، وعن خط الأمة الواحدة في الجملة هو عندي أخص صفات الخوارج، قبل مسألة التكفير بالكبيرة، فلعنة اللَّه على حزبية عصرية نتنة، تنادي بكشف "ظهر الأُمة!" لأُمراء مبتدعة خونة، التفرق سيماهم، والوثنية الوضعية دينهم، يوالون أهل الكفران، ويخونون دينهم، وصالحي أُمة الإسلام.
    سعيد القمري
    سعيد القمري


    المساهمات : 16
    تاريخ التسجيل : 22/01/2011

    كتاب تبصير الأنام بكفر مردة الحكام  للشيخ أبو أيمن Empty رد: كتاب تبصير الأنام بكفر مردة الحكام للشيخ أبو أيمن

    مُساهمة  سعيد القمري السبت فبراير 26, 2011 6:26 am

    مسألة التكفير بلفظة: "يهدون بغير هديي"
    ثم إن تركنا ذلك كله جانباً، فاعلم أن لفظة "يستنون بغير سنتي، ويهدون بغير هديي" في نفسها محتملة، لا يصح أن نحكم علي فاعلها بكفر أو غيره، إلاّ بدرجة ونوع صفة هديه هذه، فتضبط -حينئذ- بحسب جنس حكمه، فلربما كان مزاحمةً للَّه تعالى في خصيصته الكبرى في الحكم بين عباده تشريعاً، ولربما كانت من جنس النوع الثاني فيختلف حكمه؛ خصوصاً وقد جاءت اللفظة تارة في مرحلة: "خَيْرٌ..، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ" -كما هو بين في رواية الصحيحين- وقد صرفها أهل العلم هنا خاصة لزمان أمراء الدولة الإسلامية قديماً، وجاءت في رواية مسلم التي ذكرها هؤلاء في مرحلة: "شَرٌّ..، قُلُوبُهُمْ قُلُوبُ الشَّيَاطِينِ في جُثْمَانِ إِنْسٍ"، وليسو أصحاب تلك المرحلة، وإنما وصف لأصحاب المرحلة الأخيرة التي تقابل -عند التأمل- مرحلة "دعاة على أبواب جهنم" في رواية الصحيحين، والتي تأمر بالتزام بيعة جماعة المسلمين إن كان لهم إمام يومئذ، وهو -قطعاً- ليس من هؤلاء الذين يجب الهرب منهم كما تقدم، فإن كانت رواية مسلم منضبطة الألفاظ؛ فيكون لفظة: "لا يهتدون ولا يستنون" قد وردت في مرحلتين، لا يصح أن نحكم علي فاعلها بكفر أو غيره، إلاّ بدرجة ونوع صفة هديه، وعلي هذا التقرير يتخّرج جوابنا على سؤالكم عن أميركم هذا الذي لا يهتدي بهدي النبي e: ((هل يحكم بما أنزل اللَّه، أم حكم بغير ما أنزل اللَّه؟ من قال بالأول فيخشى عليه أن يكون من الإسلام قد تحول، ومن قال بالثاني، قلنا فكان ماذا؟ هل كفر لأنه يحكم بغير ما أنزل اللَّه؟ فمن قال: قد كفر، قلنا: كيف يأمر سيد البشر بطاعة من كفر؟! فلم يبق إلاّ التسليم بما قاله أهل الأثر))!!، فتلك قسمة ضيزى، وإنما القسمة الصحيحة تبين على ضوء التفصيل الآتي في بيان صور الحكم بغير ما أنزل اللَّه، وإنزاله عملياً بالنسبة لمن يمارس هذه الجريمة، وهو تفصيل مبني على أساس معنيي الحكم، والذي مر معنا من قبل:
    صور الحكم بغير ما أنزل اللَّه، وموقف الفرق من آية المائدة
    قال عمر بن محمود أبو عمر في كتابه "الجهاد والاجتهاد تأملات في المنهج":
    ((الحكم بغير ما أنزل اللَّه، فيه صور داخلة فيه دخولاً كلياً، وصور داخلة فيه دخولاً جزئياً، فمن الصور التي تدخل فيه دخولاً كليا بإجماع الأمة هي:
    أ- التشريع: قال الشاطبي في الاعتصام (2/61): "كل بدعة -وإن قلت- تشريع: زائد، أو ناقص، أو تغيير للأصل الصحيح، وكل ذلك يكون ملحقاً بما هو مشروع، فيكون قادحاً في المشروع، ولو فعل أحد مثل هذا في نفس الشريعة عامداً لكفر؛ إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيير، قل أو كثر كفر، فلا فرق بين ما قل منه أو كثر" أهـ.
    فالشاطبي يقرر أن مطلق التشريع كفر، ولا فرق بين القليل والكثير؛ لأن معنى التشريع هو رد لأمر اللَّه تعالى وحكمه، وهذا كفر بإجماع الملة، قال ابن تيمية: "والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان مرتدا بالاتفاق" أهـ.
    ويقول الشنقيطي: "وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السماوات والأرض، فتحكيمه كفر بخالق السماوات والأرض" أهـ.
    ب- رد حكم اللَّه تعالى إباءً أو امتناعاً من غير جحود ولا تكذيب: قال الجصاص: "إن من رد شيئاً من أوامر اللَّه تعالى، أو أوامر رسول اللَّه e فهو خارج من الإسلام، سواء رده من جهة الشك فيه، أو من جهة القبول والامتناع عن التسليم" أهـ.
    ج- من التزم غير حكم اللَّه تعالى: قال ابن تيمية: "ومن لم يلتزم حكم اللَّه ورسوله فهو كافر"، وقال: "فمن لم يلتزم تحكيم اللَّه ورسوله فيما بينهم فقد أقسم اللَّه بنفسه أنه لا يؤمن" أهـ.
    وقال محمد بن إبراهيم آل الشيخ في رسالة "تحكيم القوانين"، في أقسام الكفر الأكبر الداخل في هذه الآية: "وهو أعظمها، وأشملها، وأظهرها معاندةً للشرع، ومكابرةً لأحكامه، ومشاقةً لله ورسوله، ومضاهاةً بالمحاكم الشرعية، إعداداً، وإمداداً، وإرصاداً، وتأصيلاً، وتفريعاً، وتشكيلاً وتنويعاً، وحكماً وإلزاماً، ومراجع، ومستندات، فكما أن للمحاكم الشرعية مراجع ومستندات، مرجعها كلها إلى كتاب اللَّه وسنة رسوله e، فلهذه المحاكم مراجع، هي القانون الملفق من شرائع شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة، وغير ذلك، فهذه المحاكم الآن في كثير من أمصار الإسلام مهيأةً مكملةً، مفتوحة الأبواب، والناس إليها أسراب إثر أسراب، يحكم حكامها بينهم بما يخالف حكم الكتاب والسنة، من أحكام ذلك القانون، وتلزمهم به، وتقرهم عليه، وتحتمه عليهم؛ فأي كفر فوق هذا الكفر، وأي مناقضة لشهادة أن محمداً رسول اللَّه بعد هذه المناقضة" أهـ.
    أما الحالات التي تدخل في الآية دخولاً جزئياً، فمنها:
    1- إقتراف المعاصي والذنوب غير المكفرة، من غير رد لحكم اللَّه تعالى، أو استحلال للمعصية: فهذا داخل في مسمى الحكم بغير ما أنزل اللَّه تعالى، ولكن دخوله في حكمها كدخوله في مسماها، ونعني أن دخوله في الآية من باب احتجاج الأعلى على الأدنى، إذ أن الصحابة  كانوا يحتجون بالآيات النازلة في الكفار على المسلمين، لا تكفيراً لهم -والعياذ باللَّه- ولكن من باب دخول هذا الفعل المحذور في هذه الآية دخولاً جزئياً، كما قال القرطبي: "لا يستبعد أن ينتزع مما أنزل اللَّه في المشركين أحكامٌ تليق بالمسلمين، كما فعل عمر  في احتجاجه على كثرة النعم بين أيدي الصحابة في عصره بآية )أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا(، فهذه الآية نص في الكفار، ومع ذلك فهم عمر الزجر عما يناسب أحوالهم بعض المناسبة، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، وكذلك قال الشاطبي في "الموافقات" فانظره ، وكذا في "الاعتصام".
    وهذه المعاصي تسمى كفراً أصغر، أو تسمى بريد الكفر، وهي التي إذا كثرت ربما تنتج الغائي عند الموت، وهو كفر المآل .
    2- جور الحاكم وطغيانه وظلمه: وهو كظلم الحكام المسلمين لرعيتهم، بأخذ أموالهم المعصومة على جهة السياسة، من غير حجة شرعية، أو كظلمهم بجلد ظهورهم وتحميلهم ما لا يقدرون عليه، فإن هذا الصنف كسابقه، هو كفر أصغر، ومعصية من المعاصي، ويجوز الاحتجاج بالآية المتقدمة على هذه الأفعال لا تكفيراً لأصحابها، ولكن من باب دخول أصحابها دخولاً جزئياً في مسمى هذه الآية، أي أنه كفر أصغر، ومعصية من المعاصي المذمومة.
    فهذه الآية كما ترى على ظاهرها، فمن دخل فيها دخولاً كليا كان كافراً باللَّه تعالى، ومن دخل فيها دخولاً جزئياً فيصيبه بمقدار ما اقترف.
    والناس في هذه الآية طرفان ووسط:
    أ- الطرف المغالي: وهم الخوارج، وهم الذين يرون أن المعاصي والذنوب على مرتبة واحدة، فكل من عصى اللَّه تعالى فهو داخل في هذه الآية دخولاً كلياً، فهو كافر ومشرك، وبذلك كفروا أصحاب الجمل وصفين، ومعسكر علي، ومعسكر معاوية م، فهؤلاء كفروا القسم الثاني "الداخلين فيها دخولاً جزئياً لا كلياً"، وهذا القسم الثاني هو الذي قال في حقه ابن عباس م: "كفر دون كفر"، وليس من قبيل حمل الآية على معنى واحد، وهو الكفر الأصغر؛ إذ أن ظاهر الآية -كما تقدم- لا يمكن حمله إلاّ على الكفر الأكبر.
    ب- طرف التفريط: وهم المرجئة، وهؤلاء لا يرون الحكم بغير ما أنزل اللَّه -على جميع وجوهه وحالاته- إلاَّ كفراً أصغراً، ولا يكفرون القسم الأول إلاَّ بشروطهم الباطلة، كشرط الاستحلال والجحود والتكذيب، ويحتجون بجهل فاضح بقول حبر الأمة ابن عباس : "كفر دون كفر".
    وهؤلاء كغيرهم من أصحاب القول الأول أهل بدعة وضلال.
    قول وسط: وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو أن الآية على ظاهرها، وبمقدار دخول الرجل في مسماها داخل في حكمها)) أهـ.
    قلت: فمن أرادنا أن نجيب على سؤاله بنعم أو لا، دون تفصيل متفرع بدوره مما سبق ذكره من معنيي الحكم، ثم يخيِّرنا بأن نقول بقوله وإلاّ لزمنا إلزاماته الجائرة في سياق سؤاله، ومنها التلويح بالتكفير!، فإنه ظالم، جاهل.
    السلف والتكفير بآية المائدة
    وإذا كان جوابنا على سؤالهم هو أنّا قد قررنا فيه أن المسؤول عنهم قد حكموا بغير أنزل اللَّه، على التفصيل المذكور، فإن من السلف من يرى أن المقصود ابتداء بالمعنى الواسع للآية هو الكفر الأكبر، وإنما سيقت الآية لبيان حكم قوم كفرهم من النوع المخرج من الملة، وهم أهل الكتاب؛ وعليه فلا يستقيم ابتداء الاستدلال بالآية على صور الجور التي كانت تصدر من حكام بني أُمية؛ لأن مرجعيتهم في الأصل هي الاحتكام لشريعة الإسلام، فما هو قول هؤلاء حينما جعلوا خيار من قال بعدم كون الذين "لايهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي"، قد حكموا بغير ما أنزل اللَّه، في قولهم: ((يخشى عليه أن يكون من الإسلام قد تحول))؟، اللَّهم إلاّ إن كانوا لا يرون لحكام بني أُمية حكماً بغير ما أنزل اللَّه، أو أنهم غير معنيين بـ((لايهتدون بهداي، ولا يستنون بسنتي)). فيعود الخيار عليهم، حسب قسمتهم الظالمة.
    والمعنِي ممن ذكرنا من السلف هو التابعي الجليل لاحق بن حميد، فقد تلى عليه الخوارج آيات سورة المائدة في الحكم، ثم سألوه نفس سؤال هؤلاء، ((قالوا: فهؤلاء يحكمون بما أنزل اللَّه؟ قال: نعم، هو دينهم الذي به يحكمون، والذي به يتكلمون، وإليه يدعون، فاذا تركوا منه شيئاً علموا أنه جور منهم، إنما هذه اليهود والنصارى والمشركون الذين لايحكمون بما أنزل اللَّه)) .
    بل أقول إن كل من جعل الآية في أهل الكتاب، فعنده أن المقصود الأصلي للكفر فيها، والذي نزلت له الآيات ابتداءً هو الأكبر، ومن أولئك: البراء بن عازب  حيث قال: ((هي في الكفار كلها)) ، ونحو هذا ورد أيضاً عن ابن عباس  نفسه ؛ إذ لا يستقيم -إن ثبت كونها نازلة في اليهود- أن يقال إن المعنى الواسع فيها -ابتداء- هو الأصغر، كما يقول هؤلاء، ويجعلون أثر ابن عباس  مفسراً لنوع الكفر فيها مباشرةً، فهذا جهل نبرئ ابن عباس من ركوب موجته، وإنما يجب -حينئذٍ- حمل قوله، أو قول من صح عنه قول "كفر دون كفر" من السلف، على غير تنصيصه على نوع الكفر المباشر في الآية، وإنما لواقع أو مدلول خاص، يبين ذلك عند التفصيل، ورد نصوصهم ونصوص الشرع بعضها إلى بعض، وفهما على وفق التفصيل الذي تقدم في مدلول "الحكم".
    هل أخطأ من قال بـ "كفر دون كفر" في الآية؟
    ومع كوني لا أراها في أهل الكتاب خاصة، فلست كذلك مغلطاً من قال بذلك، بل ولا من قال: ((بكفر دون كفر)) من السلف!، فلكل قول مقصده ووجهته، ولكل مقام مقال، وسبيل أهل السنة يقضي بالتفصيل والاستفصال:
    -فمن حكم من الحكام بالمعني الثاني الخاص بأفعال العباد، بغير ما أنزل اللَّه من الأُمراء -وهو الذي كان في زمان السلف- نصوا في شأنه اشتراط الجحود والاستحلال، وكفره -حينئذ- دون كفر، فإن رأيت المفسرين يتكلمون حول هذا الشرط في الحكم فاعلم أنهم إنما يتكلمون عن الإطلاق الثاني لكلمة "الحكم"، وهو الذي كان مشتهراً في سياسات الدولة، وفي واقع الأُمة، وقد أصابوا، ويستشف ذلك واضحاً حتى في نصوص علماء مذهبنا السلفي، التى يستدل بها هؤلاء دون فهم، فضلاً عن عدم فهمهم لنصوص السلف من الصحابة والتابعين، ثم فضلاً عن عدم فهم نصوص الوحي، ومع ذلك يتبجحون بقاعدة "كتاب وسنة على فهم السلف"! وإليك نصاً من أوضح ما يبين المعنى الذي يتكلم حوله العلماء من معنيي الحكم، وجعلوه علي قسمين:
    يقول ابن القيم: ((والصحيح: أن الحكم بغير ما أنزل اللَّه يتناول الكفرين: الأصغر والأكبر، بحسب حال الحاكم: فإنه إن اعتقد وجوب الحكم بما أنزل اللَّه -في هذه الواقعة- وعدل عنه عصياناً، مع اعترافه بأنه مستحق للعقوبة فهذا كفر أصغر، وإن اعتقد أنه غير واجب، وأنه مخير فيه، مع تيقنه أنه حكم اللَّه تعالى، فهذا كفر أكبر، وإن جهله وأخطأه، فهذا مخطىء له حكم المخطئين)) .
    وعليك أن تتأمل، أي المعنيين هو الذي تجري فيه القسمة بين الكفرين؟، لا شك أنه لا يقصد "الحكم" بمعنى "التشريع"، وإنما بمعنى "القضاء التنفيذي" في الواقعة الماثلة، والذي شرحناه سابقاً، وهو المعنى المستعمل عندهم، وعند السلف كثيراً، كما يذكر عن ابن عباس نفسه ، فعن ابن بريدة الأسلمي قال: ((شتم رجل ابن عباس، فقال ابن عباس: إنك لتشتمني وفيَّ ثلاث خصال، إني لآتي على الآية من كتاب اللَّه عز وجل، فلوددت أن جميع الناس يعلمون منها ما أعلم، وإني لأسمع بالحاكم من حكام المسلمين يعدل في حكمه فأفرح به، ولعلّي لا أقاضي إليه أبداً، وإني لأسمع بالغيث قد أصاب البلد من بلاد المسلمين فأفرح، ومالي به من سائمة)) .
    فلا يخدعنك أحمق بأنه يستطيع جمع أربعين قولاً من التفاسير يشترط أصحابها الاستحلال، وكذا من قال من المفسرين بكفر من حكم بما عنده على أنه من عند اللَّه، فكل السابقين من المفسرين، إنما يتكلمون عن الحكم بمعناه الثاني، وأقول: لو قدر كوني في زمان السلف، أو في دولة ترفرف أعلام الشريعة في ربوعها، وكلمة اللَّه فيها العليا؛ أو كنت مع أُولئك المفسرين، لكنت المفسر رقم "واحد وأربعين"..!، ولاكتفيت أيضاً بمثل قولهم إن شاء اللَّه!!..
    -ومن تمرد على ربه بالمعنى الأول للحكم، وهو الخاص بجناب الرب عز وجل، فهذا الصنف يليق الحديث عنه في آيات تحدثت عن التشريع بصورة أبين، أو ضمن كفر الإباء وصور الرد لأمر اللَّه، سواء في كتب التفسير، أو العقيدة، وهذا ما يفعله المفسرون، ويحار هؤلاء في الجمع بين القولين حينئذٍ، ولذلك أمثلة تطول، نذكر منها حيرتهم في كلام الجصاص الذي ذكرناه في نقلنا أنفاً عن كتاب "الجهاد والاجتهاد"، قالوا: كيف؟ وقد ذكر قول ابن عباس في أية المائدة!..، وعندنا من الأمثلة العشرات، مما هو أوضح من كلام الجصاص، جمع صاحب كتاب "ميراث الأنبياء" في جزئه الأول منها خمسة وعشرين قولاً، تؤيد ما ذهبنا إليه، بل جمع غيره أكثر من مائة قول بنحوها؛ فلا ينبغي لعاقل أن يحتار مثل حيرة هؤلاء، فيتوقف في حكم مثل هذا النوع من المتمردين على ربهم في الحكم؛ حيث لم يكد يخطر على بال السلف  صدور ذلك ممن يدعي الإسلام ابتداءً، ويتبجح بتلك الفعلة علناً، ولا يخفيها، هذا مما لا يعقل إلاّ في مثل هذه الأزمان العجيبة! واللَّه أعلم.
    الشبهة الثالثة: هل البدعة شرك؟
    ثالثاً- مسألة ذكر التشريع عند السلف، ومسألة هل يكفر المبتدع إذ هو مشرع مع اللَّه.
    أقول: تكفير المشرع مذكور في كثير من نصوص الشرع؛ ولعل وجه ذلك يبين لمن عرف معنيي الحكم كما ذكرنا سابقاً. وكون فعل هؤلاء من قبيل التشريع المكفر، هو مما ذكر فيه العلماء الإجماع، وقد ذكرناه في رسالة سبقت، وناقشنا فيه شبهتهم حوله، وحول اشتراط نسبة التشريع إلى اللَّه.
    أما شبهتهم حول عدم تكفير المبتدع مع كونه مشرعاً، فنقول: المبتدع مشرع -بالاتفاق- ومستحل لمعصيته بلا نزاع منكم إن شاء اللَّه، بل هو من جنس المشرع الذي ينسب شريعته إلى اللَّه، ومن عقيدة أهل السنة: "لا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب -دون الشرك- ما لم يستحله"، وإنما يمنع من تكفير المبتدع تأويله، أو -لربما- دخوله في أجر الحاكم إذا أخطأ إن شاء اللَّه، وهذا ما قاله أهل العلم، كما سبق في كلام الشاطبي في كتابه "الاعتصام".
    وقال ابن تيمية: ((من دعا إلى غير اللَّه فقد أشرك، ومن دعا إليه بغير إذنه فقد ابتدع، والشرك بدعة، والمبتدع يؤول إلى الشرك، ولم يوجد مبتدع إلاّ وفيه نوع من الشرك، كما قال تعالى: )اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّه وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لاّ إِلَهَ إِلاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ(، وكان من شركهم أنهم أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم)) أهـ.
    وإذا كان المبتدع مشرعاً، وقد ألصق ما شرعه بالإسلام، فمن شرع ديناً لم ينسبه للَّه، لمن ليسو عبيده في الحقيقة؛ قد زاحم -حينئذ- ربه سبحانه في واحدة من أخص خصائصه، -وهي الحكم بالمعنى الأول- وكانت شريعته بمثابة دين أخر مستقل، هو إله ذلك الدين، فلا عليه ألاّ ينسبه إلى ربه، وهذا إلحاد يفوق ذاك كفراً، لم يدرك هؤلاء كنهه بعد.
    الشبهة الرابعة: حول أثر ابن عباس رواية ودراية
    رابعاً- قولهم: ((أخرج الحاكم (3312)! عنه ابن عباس في تفسير آية الحكم: "ليس بالكفر الذي يذهبون إليه، إنه ليس كفراً ينقل عن الملة..."، وقال إمام أهل الأثر الألباني: "صحيح على شرط الشيخين" الصحيحة 6/ 1/ 109 - 116)).
    ملاحظة حول منهج البحث العلمي عند القوم
    قلت: لاحظت هؤلاء القوم عندنا إذا ما عنت لهم مسألة خلافية، لربما يستصحبون لمعرفة الحق فيها تمحيص ما يتعلق بها من الراجحات -حسب اجتهادهم!- من قواعد أُصول الفقه، ولربما لغة العرب، ونحوها مما يسمى "علوم الآلة"، فإذا تطلب الأمر معرفة رتبة الحديث انقطع اجتهادهم، وبنوا مذهبهم بمجرد معرفة رأي الألباني في صحيحته المليئة بالتخاليط، ولا أقول التساهل فحسب، ولربما ينحسم النقاش، والتناظر بينهم في مسألة بعد عركها أُصولياً، ولغوياً بمجرد أن يأتي أحد طرفيهم بحديث، أو أثر صححه الألباني، في المسألة( ) يسند رأيه؛ فينفض السامري فوراً، وينتهي الحوار..!، هذا أذا لم يأت الطرف الآخر بحكم آخر للألباني في نفس الحديث!!.. بصر اللَّه قومي، فإنهم لا يعلمون..
    على القوم أن يتحققوا، ويراجعوا دوماً أحكام من يثقون بأقوالهم في الحديث، خصوصاً إذا كان الأمر مما يمس المعتقد، فليس الألباني معصوماً، ولا صحيحته ثالثة الصحاح حتى يجزم بصحة ما صححه، سواء كان فيما نحن فيه، أو في غيره، وقد حاول قبله من هم أكبر، وأعلم منه بمراحل تنقطع دونها أعناق المطي بعد البخاري ومسلم، كابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وابن السكن، والضياء المقدسي.. وغيرهم من أوتاد الحديث، وجباله الراسيات، فما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
    هذه وصية عامة، سنحت الفرصة لبيانها، أرجوا من القوم ملاحظتها.
    هل صح الأثر؟
    أما بخصوص الأثر خاصة، فلست جازماً بضعفه في الجملة، ولكن هذا اللفظ من الأثر موضع شك، فقد رأيت الحلبي قد صححه في مسودة رسالته: "القول المأمون" ثم رجع من تصحيحه بتأنٍ في المطبوعة؛ لمساجلة بينه وبين معاصر خالفه في رتبة راويه: هشام بن حجير، ثم صححه الألباني اليوم، مع تعييبه الحاكم والذهبي في عدم قولهما: "على شرط الشيخين"!، ثم رجع من هذا التعييب، وألقى به على مطبوعة الحاكم.
    وهشام هذا لم يرو له البخاري إلاّ حديثاً واحداً بالمتابعة، ذكر ذلك ابن حجر في الفصل السابع من "هدى الساري" في سياق من طعن فيه من رجال البخاري. وقد رأيت سليماً الهلالي في رسالتة: "قرة العيون" يقول: ((هذا مما لم يقله أحد ..، وهو خلاف ما عليه الحفاظ الذين ترجموا للرجل، كالمزي والذهبي والعسقلاني وغيرهم؛ حيث أطلقوا العزو للبخاري ومسلم، ولم يقولوا: في المتابعات، ولا الشواهد))!.
    نعم، للرواية شواهد تحتاج إلى نظر..
    مدى حجية الأثر خاصة، وحكم الاستدلال بغير الوحي عامة
    وعلي كل، لا يفترق عندي كثيراً إن صح الأثر، أو لم يصح بعد الذي بينا، بل إنه ليسعدني تصحيح هذه اللفظة المذكورة خاصة( ) دون غيرها؛ لأنها توحي بأن أصل الأثر كان رداً على موقف ذهب إليه الخوارج في الآية عند التأمل، وقد دون لنا التاريخ ماهيته، فكأنه يقول: إن كفر أمراء الجور الذي ذهب إليه الخوارج في ذلك الوقت إنما هو دون كفر، فاستصحب مع تفسر الآية جملة ملابسات كان لها درجة موازية، أثرت في كونه لم يكن يتحدث عن الآية بالدرجة الأُولى( )، أقول ذلك تبرئة لكلام ابن عباس من فهم هؤلاء الذين فهموه تفسيراً مباشراً منه للآية، وحاشاه من الوقوع في هذه الجهالة، وإنما اعتذرت -هنا!- لقوله بنحو هذا العذر لأني أعتقد أنه لما كان كلامه t ليس حجة في زيادة أو نقيصة من دين اللَّه؛ لم يتكفل اللَّه بحفظ ما يحف بأقوال غير صاحب الوحي e كاملة، ولن يسأل اللَّه أحداً عن زيادة على حكم الوحي أو نقص منه من جراء فتاوى وتفاسير الأئمة من بعد النبي e استقلالاً! ولم يجعل اللَّه لأحد حجة على هذا النحو مهما بلغ من العلم، ولم يدعُ النبي e لأحد بالعصمة مطلقاً، وهذه واحدة من قرابة عشرين قاعدة لفهم نصوص الوحي عند السلف في أُصول الاستدلال والتي ينبغي أن تفسر بها مقولة "كتاب وسنة على فهم السلف"، وليس آحاد أقوال السلف كما يظن هؤلاء، وربما يخالفني في هذه القاعدة -خاصة- جم غفير من منتسبي السلفية بشتى مدارسها! وربما كانت هي المعركة القادمة في منهجيتي في "تصفية السلفية"، قبل غيرها من المنهجيات! واللَّه أعلم.

    خاتمة: في "منهج القوم"
    سبب تشبث القوم بمعتقدهم، ومنهجهم في رد ما سواه
    مما ينبعي تدوينه للتاريخ؛ ليراه -إن شاء اللَّه تعالى- المهدي، وابن مريم - لهما مني السلام- وبعد قيام دولتهم المباركة، وزوال هذه الدول التي ملأت الأرض نتناً بعصبيتها، وإلحادها، أقول: تأملت حال هؤلاء، وما تردوا فيه من انحطاط عقدي، وانحطاط منهجي سلوكي، فوجدت:
    أولاً- أن من أسباب تشبث هؤلاء القوم بمعتقدهم الخاطئ هذا، هو عُجبهم بلقب "السلفية"، واحتكارهم له؛ ذلك أنهم لما علموا بمقدمة تقول بعصمة أهل السنة في الجملة، سواء في مسألة الحاكمية أو غيرها، ثم لا أهل سنة غيرهم!، ولم يكونوا ليتصوروا، أو يتحملوا أن يكون هناك من يعرف المذهب غيرهم؛ أنتجت هذه المقدمة -نصف الصحيحة- مسخاً لا يتزحزح عما اعتقده مهما بان بطلانه، ولو جئناهم بكل آية، ولو أفتى العلماء بخلاف ما هم فيه، فكلها -عندهم- فتاوى مؤوله:
    -فمن كان صاحبها قد مات، كفتوى محمد بن إبراهيم آل الشيخ، وابن عثيمين، فإن استطاعوا لي عنقها عنوة، وإلاّ فمنسوخة!..
    -ومن كان صاحبها حياً، فإن كان قد سبق له الرضا منهم، أو ممن خافوا من سمعتهم إن طعنوه، قالوا: زلة عالم، وهفوة حكيم، كما فعلوا مع لجنة الفتوى السعودية تجاه كتاب العنبري، وكتاب الحلبي، ثم أردفوا: ((إن كان الأمر اتباعاً للرجال: فابن عباس، وطاوس، ومجاهد، أولى بالتقليد من اللجنة الموقرة، وإن كان الأمر دليل وبرهان! فلم لا يعول عليهما عند الرد والبيان))!.
    قلت: قد فعلنا ذلك والحمد للَّه، والقوم يحسبون أن من قال بكفر القوانين الوضعية كفراً أكبر قد جمد في النص، وخطّأ ابن عباس t، ولا يمكن أن يجمع بين القولين بوجه من الوجوه!، وما العيب في الحقيقة إلاَّ في أفهامهم، فنحن الذين نطالبهم بالمخصصات والمقيدات الموافقة لفهمهم، وليس لآية المائدة المعنية، بل لأُخرى جعلت حق التشريع من أخص خصائص الربوبية، وغيرها جعلت تحكيم الحاكم للقانون الوضعي، أعظم كفراًُ ممن أراد فعله فقط، وقد نثرت في كثير من المؤلفات.
    وإن لم يكن مرضياً عنه فسروري، أو تكفيري..
    والمحصلة الأخيرة من ذلك: أن عصمة مذهب "أهل السنة!" يقضي بألاّ يتزحزحوا قيد أنملة عما هم فيه، وإلاّ فسبيل أهل البدع، وما تلك الفتاوي وغيرها إلاَّ امتحان لهم من اللَّه، ورجس على مخالفيهم، كما صرحوا في الورقة هذه! فاللَّهم سترك!..
    ثم ليس عصمة سلفيتهم المزعومة، أو استحالة خطأ كبار رجالاتهم في مسائل تمس المعتقد هو السبب الوحيد الذي لأجله يتعصب هؤلاء لرأيهم، ويتلمسوا الأعذار تلو الأعذار للحكام، وإنما..
    ثانياً- شعرت من خلال معاشرتي لهؤلاء القوم أن حقدهم الأرعن تجاه من يقول بمثل قولنا هذا في "الحاكمية"؛ ليس لأجل المسألة عينها! وإنما معظمه خوفٌ على ما يترتب عليها "وعليهم!"، مما يسمى منهج التغيير؛ فمن ظنوا أنه لربما سيقول يوماً بوجوب الخروج على هؤلاء -بخلاف منهج تصفيتهم المسخ، وتربيتهم المشوهة- أسرعوا من براءة ساحتهم من سبيله، وكالوا عليه أصناف التهم والشتائم؛ ولو كان الأمر وصف من اعتقد مجرد القول بخلاف فهمهم لأثر ابن عباس بأنه قد ركب موجة خارجية؛ لكان أعضاء اللجنة الدائمة عندهم أحق الناس بهذا النبذ، بل اعتذروا عن أعيان منهم بالاسم، كما قالوا في مرجع ورقتهم هذه: ((من المعلوم أن للعلامة الفوزان -حفظه اللَّه- قول بتكفير الحاكمين بعلة التشريع العام؛ فلما وجد السروريون هذا القول ضربوا به طبول الحرب على السلفيين)). ثم ذكروا نقاطاً تدور كلها حول اختلافه وغيره مع هؤلاء في منهج التغيير، الذي لخصوه من قبل في قولهم صراحة: ((فالمسألة ليست كفر الحاكم فقط، بل إن هذا وراءه إهمال التوحيد والسنة، وموالاة المبتدعة، والطعن في علماء أهل السنة، وربط الشباب بدعاة التهييج السياسي)).
    وقد ركبوا بهذا القول مظالم، وظلمات بعضها فوق بعض كما سيأتي؛ بسبب تفسيرهم لكل مفردة مما ذكروه تفسيراً خاصاً بهم، وفيه ما لو التزموه بخط واحد، وضابط لا يتغير؛ لألزمناهم بمنابذة العشرات من علماء الملة، قديماً، بل وحديثاً، بل ومن أحباب لديهم!، وقد التزمه بعضهم حقيقة، ولم يفرق بين "منافس" معاصر، و"مبتدع"، وبين مادح معاصر لمن يبدعوه، وكذلك بين مادح قديم لمن حقه -وفق مذهبهم- التبديع؛ فكان أضبط منهم لما اختطوه، وكانت النتيجة: أن جمع بين نوعين عجيبين من الغلو: إرجاء في المعتقد، وخارجية في المنهج والسلوك.
    وهؤلاء على الدرب سائرون، فقد التزموه بمناورات؛ فشغلهم اللَّه بأنفسهم شتماً وتجريحاً، ولربما في مسائل لا ترتقي لذلك؛ فليهنأ الحكام ومن وراءهم -لا هناهم اللَّه- وهذه كلمات تحتمل مصنفاً مستقلاً، عسي أن ينبري له بعض أصحاب الهمم العالية؛ ليحرج هؤلاء، أو يخرجوا من سكرتهم، فيثوبوا إلى رشدهم.
    ظلمهم لمخالفيهم
    فمن ظلمات القوم فيما نحن فيه:
    منها ما يرجع إلى ظلم المسألة نفسها، حيث جعلوها كبقية المعاصي، وقد بينا فرق ما بينهما.
    ومنها ما يرجع إلى ظلم كثير ممن يقول بالحاكمية، وقد يكون فيهم من هو من كبار أولياء اللَّه، ولا علاقة له بإهمال إلتزام أحكام الشرع في نفسه، ولا علاقة له بأخطاء غيره من عشرات اختار هؤلاء سواقطهم -ولربما كانت مجرد تخرصات، وفهم قاصر!- ثم نعتوههم جملة بـ"السرورية"!.
    ومنها ما يرجع إلى الأُمة بأسرها، حيث دلسوا عليها ركن الحاكمية من التوحيد -وقد سبق شرحه في المقدمة- حيث اختزلوا التوحيد في شرك القبور وإخوانه!، وأهدروا، أو هدموا باباً عظيماً في التوحيد، تسلل أفواج من الناس -بسبب هدمهم له- من دين اللَّه إلي العلمانية وشقيقاتها أفواجاً!، وما الشرك في الدستور عندنا بأقل من الشرك بالقبور، وما "الحاكمية" إلاّ فرع الربوبية، والأُلوهية، وعلى ضوء ذلك كان منهج الأنبياء في تصفية المفاهيم، وتربيتهم الناس، ومن لم يرق له ذلك فليعض نواجزه حرقة، وليضرب رأسه بأقرب جبل.
    وأخيراً، لا أنسى أن في القوم كثيرين ممن يطلب الحق، ولا علاقة له بأُحموقات هؤلاء، فنسأل اللَّه لنا ولهم الهداية وأن يربط على قلوبهم فيتشجعوا، ويطردوا هواجس الخوف، وقد عاد من هؤلاء الكثير، والحمد للَّه!..
    تقبل اللَّه منا ومنكم أخي المسلم، وبارك لكم في عيدكم وسائر أيامكم، وصلي اللَّه وبارك على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.


    أبو أيْمـن
    السبت 10/ ذو الحجة/ 1427هـ
    الموافق 30/ ديسمبر/ 2006م

    كل قول لي فإنه معروض على الكتاب والسنة، فإن خالفهما فالقول قول اللَّه ورسوله e
    ــــــــ
    B

      الوقت/التاريخ الآن هو الأربعاء مايو 08, 2024 3:32 pm